اهلا وسهلا يا حلوين
شوفوا هالمقالة قديش حلوة مروان خوري والأمل الموسيقي 1 - 3:
الغناء اللبناني من الحرب إلى الإيلاف
أحمد الواصل
.. ربما تتطلع الأسطورة الفينيقية من عمق الرماد، بعد لحظات الدمار والخراب، إلى نهوض طائر الفينيق، وهو طائر الأمل والرجعة من أجل مستقبل حضاري، وهذا من حكمة الشعوب ذات التراكم الحضاري حيث ينطق تماماً على حال أحد مجالات الحضارة عبر الفعل الثقافي، بالفنون والآداب، وهذا ما هو حاصل في الموسيقى والشعر، العزف والتصوير، عبر ظهور مروان خوري.
.. يشكل ظهور هذا الفنان، الملحن والشاعر - الكاتب الغنائي، في ساحة الغناء اللبناني، والعربي أيصاً، هوضاً نوعياً في فن الغناء والموسيقي، حين استطاع، خوري، أن يمارس نشاطه بين العزف وقيادة الأوركسترا مطلع التسعينات الميلادية، فكتابة الأغاني والموسيقى، ثم ظهوره مغنياً لما يكتبه ويلحنه، بدايات الألفية الثالثة ميلادياً.
.. يتوجب علينا، قبل المضي في حديثنا، وضع توصيف مشهدي لحالة الغناء اللبناني، في شمولية، لأجل تلمس تلك التحولات - أو التغيرات - التي بدت تعبر عن زمانها ومكانها، ففي أوائل السعبينات اعتمدت ذاكرة الغناء اللبناني على مرجعيتين: الغناء الريفي (الجبلي أو السهلي)، والبدوي في المواويل، الأهازيج والرقصات إزاء أرشيف الغناء العربي الكلاسيكي، من مصر تحديداً - الذي سوهم فيه عربياً.
.. توفر لبعض المواهب اللبنانية خلال الأربعينات والخمسينات فرص التواجد والمساهمة الفنيتين القويتين، سواء في الداخل اللبناني تأسيساً: ماري جبران ولورد كاش أو فرج الله بيضا ومحيي الدين بعيون أو في ساحة الغناء العربي بمصر، من خلال مواهب كبرى: نورد الهدى، سعاد محمد، نازك ومحمد البكار وإيلي بيضا في مرحلة، وفي أخرى غير مستمرة: وديع الصافي وصباح كذلك هيام يونس وفايزة أحمد.
.. ولا يمكن الاستغراب أن حالة التهجير والمنفى من فلسطين قدر ما عطلت - أو أخلت الحياة الثقافية فيها إلا أنها منحت لبنان كوادر متنوعة عندما انتقلت كوادر إذاعة «الشرق الأدنى» من القدس، في فلسطين، إلى قبرص ومنها إلى بيروت، بتولي الملحن والمغني، الفلسطيني الأصل، حليم الرومي - والد ماجدة الرومي - إدارة الإذاعة اللبنانية (1950 - 1969م)(1)، تبدت مرحلة حساسة وفارقة في تاريخ الغناء اللبناني، عبر التوجه نحو تمدين الغناء والموسيقى بتوفير مناخ فني تتوفر فيه الامكانيات التي جاءت تكريساً لذلك من مؤسسات تعليمية وبرامج عمل فنية ساهم فيها، شراكة، مبدعون من فلسطين في الغناء: محمد عازي (معلم الموشحات لفيروز)، في التلحين: خالد أبو النصر، رياض البندك (روحي الخماش في العراق) إضافة إلى إعداد كوادر فنية، من عازفين وفنيين بإتاحة فرص لملحنين ومغنين أو مغنيات مكنت من تكريس المواهب والقدرات الفنية إبان الستينات حيث ستبرز أسماء كثيرة تشكل لبنة كبرى في تاريخ الغناء العربي، لا اللبناني وحده.
.. تتنازع صوت وديع الصافي وصباح الغناء الريفي (الجبلي والسهلي)، وأسست نماذج فنية تحت مفهوم تمدين الغناء من قبل: زكي ناصيف، توفيق الباشا، وتمثيل بروز الكلاسيكية الممتدة عند سعاد محمد ونور الهدى، وخيضت تجربة المسرح الغنائي عبر الأخوين رحباني بأصوات عدة، مرة: صباح ووديع الصافي، وأخرى فيروز ونصري شمس الدين. مع فارق ملامح الصوتين الأخيرين ، فالأولى تعبر عن حداثة الغناء النسائي فيما الآخر امتداد للغناء الريفي، إضافة إلى الحفاظ على الغناء البدوي وتطوّره عبر: سميرة توفيق وعصام رجي.
الدعارة الإيديولوجية
.. في أوائل السبعينات كانت الساحة واعدة لمواهب وقدرات أخرى في كافة المجالات الفنية لتأخذ دورها كجيل يطرح نفسه: ملحم بركات وعازار حبيب، مثلاً، وفي منتصفها: وليد توفيق وماجدة الرومي من جهة ومن أخرى: أحمد دوغان وغسان صليبا إنما كان اندلاع الحرب اللبنانية نذير شؤم سوف يقلب الموازين الثقافية: أدبية وفنية مثيل ما فعل في السياسية والاجتماعية.
.. الشوارع والأزقة صارت مسرحاً لحاملي السلاح وعِدتهم. المنازل والفنادق بؤر لتجمع وتجمهر «الدعارة الإيديولوجية» بين يسارها ويمينها، عندما أخرست القوى الاجتماعية والثقافية، اختلت توازنات الفعل الحياتي انعكاساً جلياً لتلك الهاوية السياسية الماثلة عبر صراع أسهمت فيه بكل أوزارها: الأِثقال الطائفية والمذهبية(2) كذلك الطبقية إزاء المصالح والنفعيات، وصراع الريفي والبدوي مع المدني، كذلك وحشية ما قبل الحضارة المكبوتة في المدني نفسه(3) بيت بمنازل كثيرة، الصليبي)، التي قادتها أشكال العنف والتطرف نحو الهياج والتخندق لتنسحب على كل مجالات الثقافة والسياسة، صار المشهد اللبناني بلا ستار أو خشبة، فتبدت حينها حالات هياج وتخندق فنيين، أو صيغ العنف والتطرف انعكست على الفن والأدب. فإذا كانت الحناجر تقترح تعبئة قوى الطوارئ الوطنية والإنسانية تمثل بأصوال تخندقت وهاجت في الحس الإنشادي والاحترازي عبر حالتي: مرسيل خليفة وزياد الرحباني، مثلاً، ومقابل ذلك استطاع العنف والتطرف الصباحي صنع حالة الخدر والتشويش الليلي عبر صوت: جورج وسوف ومنى مرعشلي(4).
.. صوت وحيد كان يخرج من الأوجاع كلها، عندما تطهر اجتماعياً عبر الصدمة الهمجية، بعد البراءة الريفية والحس القروي، هو صوت الطفلة عصية الكبر - كما يعبر أنسي الحاج، فيروز كان يمتلئ ويشيع حس الفاجعة، عبر المدينة التي تدمرت برصاص وعنتريات أبنائها، بأطيافهم وأشكالهم، بيروت جعلت الجراح تستعير الوجع التاريخي من الضفة الأخرى عبر اختيار موسيقى من كونشرتو «آرنخويز» للإسباني يواخين رودريغو، في شعر كتبه جوزف حرب وتجسدت في أغنية: «لبيروت - 1987م) من مجموعة: «معرفتي فيك» التي وقعها زياد رحباني.
.. راحت بيروت تستعيد عافيتها بعد آثار من الدخان والهدم.
.. كانت ملامح ومعالم الحياة تحمل طاقة الخروج من سيرة الخراب والدمار، فما أدعى إلى الاستشفاء هو اعتبار التخطي من الحالة الماضية «الحرب الأهلية» إلى حالة «الإيلاف الأهلي» (الطائف - 1992م).
.. ورثت الحالة الفنية القليل من المنجزات الكبرى والكثير من الدمارات الواضحة في الموسيقى والغناء سواء ما كان من أرشيف أغنيات الهياج والتخندق أو «زعبرات» الخدر والتشويش، فلا نستغرب خلل المعادلات الاجتماعية لتنعكس على الشروط الفنية وتضع قوائم جديدة قدر ما توهم باقتراحاتها الواعدة، فهي لن تتخلص من الخدوش والندبات الماضية.
.. عندما تستعيد بعض الأصوات بأثر رجعي جداول مؤجلة مثل: ملحم بركات وماجدة الرومي، استأنفت الأخرى أجندتها المفترضة: نجوى كرم وعاصي الحلاني، فما كان ممكناً لبعض الأصوات والحالات الفنية الاستثنائية أن تبقى لمقومات وأرشيف تمتلكه، مثل: فيروز أو لبعض حالات اضطرارية أن تغير موازناتها، مثل: مرسيل خليفة وجوليا بطرس، كانت بعض الحالات عاشت على هامش الواقع الطارئ تطوي صلاحياتها بالاستفادة أو تهميش التيار الجارف لها..
.. هل نستطيع أن نرى الجسد الغنائي اللبناني في حالة شفاء مؤكدة؟. هل تسمح روحه الفنية السابقة على نشوء بدائل أخرى تكمل التراكم الفني؟.
.. على المستوى القريب (1992 - 2000م) لم يكن متاحاً ولا كانت تظهر بعض الانتاجات الفنية المميزة سوى استثناءات، مثل: فيروز وزياد الرحباني أو ماجدة الرومي بملحنيها أو جوليا بطرس وزياد بطرس، حين ظل الكثير من وضع قائم على مكاسب الحالة الطارئة السابقة والقوى الإنتاجية كذلك الإعلامية، فحاولت أن تخلق صفوفاً من الكوادر الفنية التي تعجل بحالة الاستشفاء الفوري، مثل: نوال الزغبي وراغب علامة، وهي حال لبننة توسط بين عوالم قاهرة العشرينيات وشيوخ حلب الأربعينات..
.. ربما لم يكن غريباً ذلك التعليق اللافت من أحد العاملين في الحركة الفنية اللبنانية، وهو المخرج جيرار أفديسيان، حيث افترض أن تكريس بعض الأغنيات المصرية، مثل «إنت عمري» أو «جانا الهوا» من أرشيف أم كلثوم وعبدالحليم حافظ، هو تأكيد على فقر الساحة اللبنانية عن الأمثلة المنجزة في أرشيف الغناء اللبناني، وهذا ما دعا شركة «صوت الشرق» إلى انجاز طبعات من أرشيف المسرح والإذاعة لأعمال الأخوين رحباني وفيروز كذلك زكي ناصيف ونور الهدى أو شركة «صوت بيروت» التي أنجزت طبعات لأرشيف أعمال توفيق الباشا، المؤلفات الموسيقية، أو القصائد والمرشحات: حديثها وقديمها، مع أصوات كثيرة: سعاد محمد ونازك أو محمد غازي توفيق غريب. فيما ستنزوي أو تنكفئ بعض الشركات اللواتي فقدن سلطتهن الإنتاجية عن السوق وتقديم المواهب.
.. عندما عجزت تلك الشركات، وغيرها، عن مواكبة تقديم الكوادر الجديدة توفر لبعض شركات الإنتاج والتوزيع العالمية التواجد، مثل: ميغاستار Megastar وإي. أم. أي EMI. لحين تأسس روتانا التي سوف تواكب أساليب العمل الإنتاجي والإعلامي حيث ستحظى بفرصة الامتداد العربي لا اللبناني فقط، من بعد الخليج العربي والسعودية تحديداً، وفتحت فرص الظهور وقديم أو استئناف إكمال مشاريع الكثير من المواهب والقدرات، المتسمة ببعض الانحياز العشوائي أو الإقصاء الفوضوي.
.. من بين تلك المواهب والقدرات التي تمتلك مقومات البقاء سواء لحسن صناعة الذاكرة الغنائية أو تخصيبها الطبيعي أو تلقيحها الاصطناعي ، سوف تظهر موهبة مروان خوري في هذه اللحظة الفنية والتاريخية، فسنرى الملامح الأولى لهذه الموهبة والقدرة أي دور تذهب في «صناعة الذاكرة الغنائية».
.. ليس المشهد الغنائي والموسيقي، خالياً من آثار الماضي ولا تقرحات الحاضر، فإذا ما ورثت الساحة عشوائية الاختيار أو الانتقاء من أرشيف الغناء والموسيقى اللبنانيين، سنرى أن كل ما طمح إليه وقدمه سواء زكي ناصيف أو الأخوان رحباني أو توفيق الباشا سوف يختزل بحسب حنجرة وديع الصافي وصباح، إلى الغناء الريفي (الجبلي تحديداً) وبحسب حنجرة سميرة توفيق إلى الغناء البدوي (أو الغجري توضيحاً)، وفي ذلك سوف تتضاءل، بالتجاهل أو الامتناع، فرصة تكريس المكاسب الفنية التاريخية لتميدن الغناء والموسيقى وتوفر الخطوط والاتجاهات اللحنية، وهذا ما يفسر انطواء أو احتجاج أو ريبة بعض الحالات الفنية، كأصوات وموسيقيين إزاء تفشي وبجح أخرى، بالمزاحمة والتخبط سواء بالنهب المكشف من التراث العربي تسطيحاً، لمجمل الغناء الشعبي والخفيف أو تراث القوميات المجاورة، سواء اليونانية، الأرمنية والتركية، أو اجترار وتكرار، ما يشكل «أنيميا مؤقتة» أو مرحلية، لفلكلور وتراث - يتعمد تجاهل أصحابه - يتحين الأنماط البسيطة والشعبية المألوفة وغير البعيدة زمنياً عن الوقت الراهن، لا الذاكرة أو التسجيلات الممكن نفض غبارها من أرشيف الإذاعات العربية.
هوامش:
1 - مذكرات حليم الرومي، حليم الرومي، شركة رياض الريس للكتب والنشر - 1992م.
2 - وضعت برامج توثيقية عن أحزاب لبنان وطوائف لبنان، انتجتها وتوزعها شركة صباح، كفيلة بكشف عطب حضاري لا زالت آلامه تستمرئ النزيف.
3 - بيت بمنازل كثيرة: الكيان اللبناني بين التصور والواقع، كمال الصليبي، نوفل - 2001، ط:3، ص:285.
4 - تحدث لي، عادل بطل، صاحب محل: Deep Music، عن بدايات، الوسوف، وعن جمهوره، من شبيبة أو زعران الخاكي، ممن أغرقتهم تفاهة الحرب اللبنانية، بالكيف والسهر، بالرصاص والدم. فإن بداية جورج وسوف، واستمراره ببقاء جمهوره المنتمي إلى هذه العقلية الريفية المهمشة اللاجئة إلى الغناء بالخدر، والمستقوية بانتقام زعبرة العتالين وسلاحها.
4 تعليقات
تنويه: في حال وجود ملاحظة أو اعتراض على أي تعليق يرجى الضغط على (إبلاغ)
1
ننتظر المزيد من أمير الرومانسيين
عندما استمعت له في المرة الأولى توقفت عنده ثم اختفى ليعود مكللاً كل ذلك الغياب بكل القصائد الرائعة الباقية ومن يومها قررت ان لا أستمع إلا له أو لأعمال تحمل توقيعه لحناً وكلاماً أتدرون مالذي جنيته عندما قصرت سمعي عليه ؟ عشت في عالم خيالي يشبهني واشبهه وأرحت أذني من الضوضاء، بانتظار الجزء الثاني والثالث للموضوع شكراً من القلب للأستاذ أحمد الواصل.
نوال
2
عندما استمعت له في المرة الأولى توقفت عنده ثم اختفى ليعود مكللاً كل ذلك الغياب بكل القصائد الرائعة الباقية ومن يومها قررت ان لا أستمع إلا له أو لأعمال تحمل توقيعه لحناً وكلاماً أتدرون مالذي جنيته عندما قصرت سمعي عليه ؟ عشت في عالم خيالي يشبهني واشبهه وأرحت أذني من الضوضاء، بانتظار الجزء الثاني والثالث للموضوع شكراً من القلب للأستاذ أحمد الواصل.
نوال
3
فعلا موهبة... سوف تعلق في ذاكرت التاريخ الموسيقي..
تستحق الأعجاب..
اراهن على بقاءها..
كسرت لدي جواجز كثيرة.. عرفتني إلى ذاتي بعمق لم أكن اتوقعة..
إلى الأمام دائما..
مع الشكر للأستاذ أحمد الواصل
maha
4
شكرا جزيلا على المقال الأكثر من رائع... والذي يوصف تطور الموسيقى في لبنان ويتنبأ بمستقبل واعد للفنان المبدع مروان خوري. وهو فعلا فنان ولد ليحيى في الذاكرة الموسيقية اللبنانية وامتداد لأصالة الماضي بروح عصرية وجديدة
سارة
<hr color=#99ccff SIZE=1>جميل جدا ان نرى اصحاب القلوب البيضاء والمذواقين ان يكبوا كلام جميل جدا عن هذا الفان الرائع مروان خوري
اتمنى عجبتكم المقالة
:lol!:
مع السلامة
شوفوا هالمقالة قديش حلوة مروان خوري والأمل الموسيقي 1 - 3:
الغناء اللبناني من الحرب إلى الإيلاف
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] مروان خوري |
.. ربما تتطلع الأسطورة الفينيقية من عمق الرماد، بعد لحظات الدمار والخراب، إلى نهوض طائر الفينيق، وهو طائر الأمل والرجعة من أجل مستقبل حضاري، وهذا من حكمة الشعوب ذات التراكم الحضاري حيث ينطق تماماً على حال أحد مجالات الحضارة عبر الفعل الثقافي، بالفنون والآداب، وهذا ما هو حاصل في الموسيقى والشعر، العزف والتصوير، عبر ظهور مروان خوري.
.. يشكل ظهور هذا الفنان، الملحن والشاعر - الكاتب الغنائي، في ساحة الغناء اللبناني، والعربي أيصاً، هوضاً نوعياً في فن الغناء والموسيقي، حين استطاع، خوري، أن يمارس نشاطه بين العزف وقيادة الأوركسترا مطلع التسعينات الميلادية، فكتابة الأغاني والموسيقى، ثم ظهوره مغنياً لما يكتبه ويلحنه، بدايات الألفية الثالثة ميلادياً.
.. يتوجب علينا، قبل المضي في حديثنا، وضع توصيف مشهدي لحالة الغناء اللبناني، في شمولية، لأجل تلمس تلك التحولات - أو التغيرات - التي بدت تعبر عن زمانها ومكانها، ففي أوائل السعبينات اعتمدت ذاكرة الغناء اللبناني على مرجعيتين: الغناء الريفي (الجبلي أو السهلي)، والبدوي في المواويل، الأهازيج والرقصات إزاء أرشيف الغناء العربي الكلاسيكي، من مصر تحديداً - الذي سوهم فيه عربياً.
.. توفر لبعض المواهب اللبنانية خلال الأربعينات والخمسينات فرص التواجد والمساهمة الفنيتين القويتين، سواء في الداخل اللبناني تأسيساً: ماري جبران ولورد كاش أو فرج الله بيضا ومحيي الدين بعيون أو في ساحة الغناء العربي بمصر، من خلال مواهب كبرى: نورد الهدى، سعاد محمد، نازك ومحمد البكار وإيلي بيضا في مرحلة، وفي أخرى غير مستمرة: وديع الصافي وصباح كذلك هيام يونس وفايزة أحمد.
.. ولا يمكن الاستغراب أن حالة التهجير والمنفى من فلسطين قدر ما عطلت - أو أخلت الحياة الثقافية فيها إلا أنها منحت لبنان كوادر متنوعة عندما انتقلت كوادر إذاعة «الشرق الأدنى» من القدس، في فلسطين، إلى قبرص ومنها إلى بيروت، بتولي الملحن والمغني، الفلسطيني الأصل، حليم الرومي - والد ماجدة الرومي - إدارة الإذاعة اللبنانية (1950 - 1969م)(1)، تبدت مرحلة حساسة وفارقة في تاريخ الغناء اللبناني، عبر التوجه نحو تمدين الغناء والموسيقى بتوفير مناخ فني تتوفر فيه الامكانيات التي جاءت تكريساً لذلك من مؤسسات تعليمية وبرامج عمل فنية ساهم فيها، شراكة، مبدعون من فلسطين في الغناء: محمد عازي (معلم الموشحات لفيروز)، في التلحين: خالد أبو النصر، رياض البندك (روحي الخماش في العراق) إضافة إلى إعداد كوادر فنية، من عازفين وفنيين بإتاحة فرص لملحنين ومغنين أو مغنيات مكنت من تكريس المواهب والقدرات الفنية إبان الستينات حيث ستبرز أسماء كثيرة تشكل لبنة كبرى في تاريخ الغناء العربي، لا اللبناني وحده.
.. تتنازع صوت وديع الصافي وصباح الغناء الريفي (الجبلي والسهلي)، وأسست نماذج فنية تحت مفهوم تمدين الغناء من قبل: زكي ناصيف، توفيق الباشا، وتمثيل بروز الكلاسيكية الممتدة عند سعاد محمد ونور الهدى، وخيضت تجربة المسرح الغنائي عبر الأخوين رحباني بأصوات عدة، مرة: صباح ووديع الصافي، وأخرى فيروز ونصري شمس الدين. مع فارق ملامح الصوتين الأخيرين ، فالأولى تعبر عن حداثة الغناء النسائي فيما الآخر امتداد للغناء الريفي، إضافة إلى الحفاظ على الغناء البدوي وتطوّره عبر: سميرة توفيق وعصام رجي.
الدعارة الإيديولوجية
.. في أوائل السبعينات كانت الساحة واعدة لمواهب وقدرات أخرى في كافة المجالات الفنية لتأخذ دورها كجيل يطرح نفسه: ملحم بركات وعازار حبيب، مثلاً، وفي منتصفها: وليد توفيق وماجدة الرومي من جهة ومن أخرى: أحمد دوغان وغسان صليبا إنما كان اندلاع الحرب اللبنانية نذير شؤم سوف يقلب الموازين الثقافية: أدبية وفنية مثيل ما فعل في السياسية والاجتماعية.
.. الشوارع والأزقة صارت مسرحاً لحاملي السلاح وعِدتهم. المنازل والفنادق بؤر لتجمع وتجمهر «الدعارة الإيديولوجية» بين يسارها ويمينها، عندما أخرست القوى الاجتماعية والثقافية، اختلت توازنات الفعل الحياتي انعكاساً جلياً لتلك الهاوية السياسية الماثلة عبر صراع أسهمت فيه بكل أوزارها: الأِثقال الطائفية والمذهبية(2) كذلك الطبقية إزاء المصالح والنفعيات، وصراع الريفي والبدوي مع المدني، كذلك وحشية ما قبل الحضارة المكبوتة في المدني نفسه(3) بيت بمنازل كثيرة، الصليبي)، التي قادتها أشكال العنف والتطرف نحو الهياج والتخندق لتنسحب على كل مجالات الثقافة والسياسة، صار المشهد اللبناني بلا ستار أو خشبة، فتبدت حينها حالات هياج وتخندق فنيين، أو صيغ العنف والتطرف انعكست على الفن والأدب. فإذا كانت الحناجر تقترح تعبئة قوى الطوارئ الوطنية والإنسانية تمثل بأصوال تخندقت وهاجت في الحس الإنشادي والاحترازي عبر حالتي: مرسيل خليفة وزياد الرحباني، مثلاً، ومقابل ذلك استطاع العنف والتطرف الصباحي صنع حالة الخدر والتشويش الليلي عبر صوت: جورج وسوف ومنى مرعشلي(4).
.. صوت وحيد كان يخرج من الأوجاع كلها، عندما تطهر اجتماعياً عبر الصدمة الهمجية، بعد البراءة الريفية والحس القروي، هو صوت الطفلة عصية الكبر - كما يعبر أنسي الحاج، فيروز كان يمتلئ ويشيع حس الفاجعة، عبر المدينة التي تدمرت برصاص وعنتريات أبنائها، بأطيافهم وأشكالهم، بيروت جعلت الجراح تستعير الوجع التاريخي من الضفة الأخرى عبر اختيار موسيقى من كونشرتو «آرنخويز» للإسباني يواخين رودريغو، في شعر كتبه جوزف حرب وتجسدت في أغنية: «لبيروت - 1987م) من مجموعة: «معرفتي فيك» التي وقعها زياد رحباني.
.. راحت بيروت تستعيد عافيتها بعد آثار من الدخان والهدم.
.. كانت ملامح ومعالم الحياة تحمل طاقة الخروج من سيرة الخراب والدمار، فما أدعى إلى الاستشفاء هو اعتبار التخطي من الحالة الماضية «الحرب الأهلية» إلى حالة «الإيلاف الأهلي» (الطائف - 1992م).
.. ورثت الحالة الفنية القليل من المنجزات الكبرى والكثير من الدمارات الواضحة في الموسيقى والغناء سواء ما كان من أرشيف أغنيات الهياج والتخندق أو «زعبرات» الخدر والتشويش، فلا نستغرب خلل المعادلات الاجتماعية لتنعكس على الشروط الفنية وتضع قوائم جديدة قدر ما توهم باقتراحاتها الواعدة، فهي لن تتخلص من الخدوش والندبات الماضية.
.. عندما تستعيد بعض الأصوات بأثر رجعي جداول مؤجلة مثل: ملحم بركات وماجدة الرومي، استأنفت الأخرى أجندتها المفترضة: نجوى كرم وعاصي الحلاني، فما كان ممكناً لبعض الأصوات والحالات الفنية الاستثنائية أن تبقى لمقومات وأرشيف تمتلكه، مثل: فيروز أو لبعض حالات اضطرارية أن تغير موازناتها، مثل: مرسيل خليفة وجوليا بطرس، كانت بعض الحالات عاشت على هامش الواقع الطارئ تطوي صلاحياتها بالاستفادة أو تهميش التيار الجارف لها..
.. هل نستطيع أن نرى الجسد الغنائي اللبناني في حالة شفاء مؤكدة؟. هل تسمح روحه الفنية السابقة على نشوء بدائل أخرى تكمل التراكم الفني؟.
.. على المستوى القريب (1992 - 2000م) لم يكن متاحاً ولا كانت تظهر بعض الانتاجات الفنية المميزة سوى استثناءات، مثل: فيروز وزياد الرحباني أو ماجدة الرومي بملحنيها أو جوليا بطرس وزياد بطرس، حين ظل الكثير من وضع قائم على مكاسب الحالة الطارئة السابقة والقوى الإنتاجية كذلك الإعلامية، فحاولت أن تخلق صفوفاً من الكوادر الفنية التي تعجل بحالة الاستشفاء الفوري، مثل: نوال الزغبي وراغب علامة، وهي حال لبننة توسط بين عوالم قاهرة العشرينيات وشيوخ حلب الأربعينات..
.. ربما لم يكن غريباً ذلك التعليق اللافت من أحد العاملين في الحركة الفنية اللبنانية، وهو المخرج جيرار أفديسيان، حيث افترض أن تكريس بعض الأغنيات المصرية، مثل «إنت عمري» أو «جانا الهوا» من أرشيف أم كلثوم وعبدالحليم حافظ، هو تأكيد على فقر الساحة اللبنانية عن الأمثلة المنجزة في أرشيف الغناء اللبناني، وهذا ما دعا شركة «صوت الشرق» إلى انجاز طبعات من أرشيف المسرح والإذاعة لأعمال الأخوين رحباني وفيروز كذلك زكي ناصيف ونور الهدى أو شركة «صوت بيروت» التي أنجزت طبعات لأرشيف أعمال توفيق الباشا، المؤلفات الموسيقية، أو القصائد والمرشحات: حديثها وقديمها، مع أصوات كثيرة: سعاد محمد ونازك أو محمد غازي توفيق غريب. فيما ستنزوي أو تنكفئ بعض الشركات اللواتي فقدن سلطتهن الإنتاجية عن السوق وتقديم المواهب.
.. عندما عجزت تلك الشركات، وغيرها، عن مواكبة تقديم الكوادر الجديدة توفر لبعض شركات الإنتاج والتوزيع العالمية التواجد، مثل: ميغاستار Megastar وإي. أم. أي EMI. لحين تأسس روتانا التي سوف تواكب أساليب العمل الإنتاجي والإعلامي حيث ستحظى بفرصة الامتداد العربي لا اللبناني فقط، من بعد الخليج العربي والسعودية تحديداً، وفتحت فرص الظهور وقديم أو استئناف إكمال مشاريع الكثير من المواهب والقدرات، المتسمة ببعض الانحياز العشوائي أو الإقصاء الفوضوي.
.. من بين تلك المواهب والقدرات التي تمتلك مقومات البقاء سواء لحسن صناعة الذاكرة الغنائية أو تخصيبها الطبيعي أو تلقيحها الاصطناعي ، سوف تظهر موهبة مروان خوري في هذه اللحظة الفنية والتاريخية، فسنرى الملامح الأولى لهذه الموهبة والقدرة أي دور تذهب في «صناعة الذاكرة الغنائية».
.. ليس المشهد الغنائي والموسيقي، خالياً من آثار الماضي ولا تقرحات الحاضر، فإذا ما ورثت الساحة عشوائية الاختيار أو الانتقاء من أرشيف الغناء والموسيقى اللبنانيين، سنرى أن كل ما طمح إليه وقدمه سواء زكي ناصيف أو الأخوان رحباني أو توفيق الباشا سوف يختزل بحسب حنجرة وديع الصافي وصباح، إلى الغناء الريفي (الجبلي تحديداً) وبحسب حنجرة سميرة توفيق إلى الغناء البدوي (أو الغجري توضيحاً)، وفي ذلك سوف تتضاءل، بالتجاهل أو الامتناع، فرصة تكريس المكاسب الفنية التاريخية لتميدن الغناء والموسيقى وتوفر الخطوط والاتجاهات اللحنية، وهذا ما يفسر انطواء أو احتجاج أو ريبة بعض الحالات الفنية، كأصوات وموسيقيين إزاء تفشي وبجح أخرى، بالمزاحمة والتخبط سواء بالنهب المكشف من التراث العربي تسطيحاً، لمجمل الغناء الشعبي والخفيف أو تراث القوميات المجاورة، سواء اليونانية، الأرمنية والتركية، أو اجترار وتكرار، ما يشكل «أنيميا مؤقتة» أو مرحلية، لفلكلور وتراث - يتعمد تجاهل أصحابه - يتحين الأنماط البسيطة والشعبية المألوفة وغير البعيدة زمنياً عن الوقت الراهن، لا الذاكرة أو التسجيلات الممكن نفض غبارها من أرشيف الإذاعات العربية.
هوامش:
1 - مذكرات حليم الرومي، حليم الرومي، شركة رياض الريس للكتب والنشر - 1992م.
2 - وضعت برامج توثيقية عن أحزاب لبنان وطوائف لبنان، انتجتها وتوزعها شركة صباح، كفيلة بكشف عطب حضاري لا زالت آلامه تستمرئ النزيف.
3 - بيت بمنازل كثيرة: الكيان اللبناني بين التصور والواقع، كمال الصليبي، نوفل - 2001، ط:3، ص:285.
4 - تحدث لي، عادل بطل، صاحب محل: Deep Music، عن بدايات، الوسوف، وعن جمهوره، من شبيبة أو زعران الخاكي، ممن أغرقتهم تفاهة الحرب اللبنانية، بالكيف والسهر، بالرصاص والدم. فإن بداية جورج وسوف، واستمراره ببقاء جمهوره المنتمي إلى هذه العقلية الريفية المهمشة اللاجئة إلى الغناء بالخدر، والمستقوية بانتقام زعبرة العتالين وسلاحها.
4 تعليقات
تنويه: في حال وجود ملاحظة أو اعتراض على أي تعليق يرجى الضغط على (إبلاغ)
1
ننتظر المزيد من أمير الرومانسيين
عندما استمعت له في المرة الأولى توقفت عنده ثم اختفى ليعود مكللاً كل ذلك الغياب بكل القصائد الرائعة الباقية ومن يومها قررت ان لا أستمع إلا له أو لأعمال تحمل توقيعه لحناً وكلاماً أتدرون مالذي جنيته عندما قصرت سمعي عليه ؟ عشت في عالم خيالي يشبهني واشبهه وأرحت أذني من الضوضاء، بانتظار الجزء الثاني والثالث للموضوع شكراً من القلب للأستاذ أحمد الواصل.
نوال
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] ابلاغ
09:17 صباحاً 2006/06/24 2
عندما استمعت له في المرة الأولى توقفت عنده ثم اختفى ليعود مكللاً كل ذلك الغياب بكل القصائد الرائعة الباقية ومن يومها قررت ان لا أستمع إلا له أو لأعمال تحمل توقيعه لحناً وكلاماً أتدرون مالذي جنيته عندما قصرت سمعي عليه ؟ عشت في عالم خيالي يشبهني واشبهه وأرحت أذني من الضوضاء، بانتظار الجزء الثاني والثالث للموضوع شكراً من القلب للأستاذ أحمد الواصل.
نوال
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] ابلاغ
09:20 صباحاً 2006/06/24 3
فعلا موهبة... سوف تعلق في ذاكرت التاريخ الموسيقي..
تستحق الأعجاب..
اراهن على بقاءها..
كسرت لدي جواجز كثيرة.. عرفتني إلى ذاتي بعمق لم أكن اتوقعة..
إلى الأمام دائما..
مع الشكر للأستاذ أحمد الواصل
maha
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] ابلاغ
04:38 مساءً 2006/06/24 4
شكرا جزيلا على المقال الأكثر من رائع... والذي يوصف تطور الموسيقى في لبنان ويتنبأ بمستقبل واعد للفنان المبدع مروان خوري. وهو فعلا فنان ولد ليحيى في الذاكرة الموسيقية اللبنانية وامتداد لأصالة الماضي بروح عصرية وجديدة
سارة
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] ابلاغ
07:05 مساءً 2006/06/24 <hr color=#99ccff SIZE=1>جميل جدا ان نرى اصحاب القلوب البيضاء والمذواقين ان يكبوا كلام جميل جدا عن هذا الفان الرائع مروان خوري
اتمنى عجبتكم المقالة
:lol!:
مع السلامة